يأتي دور المؤسسات الإعلامية (المقروءة، والمسموعة، والمرئية) في تجسيد ثقافة الأطفال. وهذه الثقافة تتمثل في نشر مجالات تثقيفية وإعلامية بين أفراد المجتمع في إطار توعية حقيقية للأطفال لأنها أكثر مراحل عمر الإنسان تأثراً وقابلية ، وبث المعلومات، والنماذج السلوكية القيمية التي تسهم في تشكيل ذهن الطفل وتطلعاته وأنماط سلوكه سواء كانت تخصه كفرد، أو في علاقته مع الآخرين. فالمواد التي يقدمها التلفاز على سبيل المثال للأطفال والكبار أحياناً تصبح ذات أثر فعلي عندما يتم الاقتداء بما تتضمنه من شخصيات وقيم ورموز... فوسائل الإعلام بهذا تكون عاملاً مساعداً، أو عائقاً للتربية الأسرية حسب نوعية ما تقدمه وتنشره وتلقنه... بما يكفل تنشئة الأفراد على السلوك الايجابي، وإحاطتهم بمعلومات كاملة وأمينة عن كافة ما يدور حولهم بعيداً عن المحدودية؛ مستلهمة رسالتها من رسالة الإسلام السمحة، والعمل دوماً على إعطاء الوسائل الإعلامية الاستقلالية للعمل بشفافية بعيداً عن الثقافة المرجوة للحرب والعنف، والكراهية؛ نظراً لسرعة الانتشار الواسع لهذه الوسائل، وللتعامل اليومي المباشر معها، ولسرعة أثرها خاصة المرئي منها فمثل هذه الوسائل تملك أكبر الأثر على الأذهان، والسلوكيات مما يلزم باستحضارها كمصدر رئيس للتربية على السلوك الايجابي(*)كم ذكرنا سابقاً، وبصورة تنسجم مع باقي مصادر هذه التربية.
ان الإعلام هو أداة مهمة للتعبير عن آمال الإنسان وطموحاته، والبوح بما تختزنه الصدور من أحاديث وخواطر، وما يجول في العقول من آراء وأفكار، والانتفاع بها في حياة الناس ومعالجة مشكلاتهم، وهو في الإسلام رسالة ودعوة قبل أن يكون فناً وصناعة، يعتمد على الصدق في القول، والمباح في الفعل، والنصح في الهدف، والنفع في المضمون، ويصان عن اللغط والفضول واللغو؛ فضلا عن الحرام من الفاحش البذيء، وقد قام الرسول صلى الله عليه و سلم بوظيفة التبشير والإنذار، وأدى واجب الإبلاغ، قال تعالى : { يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً }(1) وقال تعالى : { فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين }(2)
ولم يكن واجب الدعوة والإبلاغ خاصاً بالرسول صلى الله عليه و سلم وحده؛ بل تعدى التكليف به إلى أتباعه من بعده، قال تعالى :
" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " (3) وما هذا الواجب الكفائي إلا لتأكيد فريضة نشر الإسلام بكل عقائده وتشريعاته ومضامينه عن طريق وسائل الإعلام المباحة، وبيان أن التعبئة لهذا النشر أو الإعلام ضرورة في كل وقت وفي كل مكان، وأن الأمة إذا لم تجند له الطاقات، وتهيئ له الإمكانات الكافية(4) ، وتستثمره في صالح الدعوة إلى الإسلام، وتربية النفوس على الخير، وإعداد الأجيال الصالحة ــ تكن آثمة، مؤاخذة على التقصير في هذا الجانب الحيوي والمؤثر في الإنسان والمجتمع.
واليوم أصبح الإنسان تحت تأثير وسائل الإعلام المختلفة رضي أم أبى؛ ولاسيما وهو في مرحلة الطفولة؛ لأنها أكثر مراحل عمر الإنسان تأثراً وقابلية، فما واجب الإعلام. نحو هذه الفئة التي تمثل أكبر نسبة في الهرم العمري في المجتمعات الإسلامية؛ حيث تتجاوز نسبتها %43 من نسبة العدد السكاني لهذه المجتمعات؟ نسبة كبيرة قريبة من نصف المجتمع، أليست هذه النسبة التي تتبوأ مثل هذه الكثافة من العدد السكاني جديرة بالاهتمام والرعاية الخاصة من قبل وسائل الإعلام والقائمين عليها ؟ إذا كنا نعي الدور الخطير للوسائل الإعلامية في تكوين الإنسان وتوجيه ميوله وتنمية مواهبه، وندرك أن مستقبلنا مرهون بمستقبل أطفالنا ــ فماذا أعددنا لهم من إعلام يبني مستقبلنا المتمثل في أطفالنا اليوم؟ وماذا هيأنا من إعلام مُوَجهٍ لهم إلى ما يتفق مع عقيدتنا وفكرنا وقيمنا ومعطيات ديننا وتاريخنا المجيد؟ هل استطاع إعلامنا أن يؤكد انتماءنا إلى مبادئ الإسلام ومعطياتها ؟ وهل استطاع أن يشيد لنا في مستقبل الأيام مجتمعاً متماسكاً يقوم على مرتكزات الدين والعزة والكرامة والأخلاق؛ أم أنه إعلام يعمل من غير انتماء ولا هوية ؟
إن من الطبيعي أن يسير الإعلام وفق سياسة مرسومة ونهج واضح، يخدم مبادئ القائمين عليه والمُسَيرين لوسائله وبرامجه، فقد كان الإعلام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي سابقاً يقوم بدور تثقيف جماهيره بالنظرية الشيوعية، ويدحض الأفكار التي تخالفها، ولا يزال الإعلام الغربي يجعل من الركض وراء المادة بأنواعها قاعدة أساسية في سياسته ونشاطه، ومن أجل ذلك تحلل من كل القيم والأخلاق بعد أن قطع صلته بالدين والخلق، وسلك مسلك العلمنة في الإعلام والتربية.(5)
لقد نشأ الإعلام في المجتمعات الإسلامية في زمن كان الاستعمار الغربي يجثم على غالبها، والفكر الإسلامي غائباً عن ساحة التأثير الثقافي، مما جعل الإعلام في هذه المجتمعات ينطبع بطابع الفكر الغربي من حيث مظهره وجوهره، وينشأ غريب النزعة والهدف، يُعنى بتنوع الوسيلة ومظهرها أكثر من عنايته بالمضمون والمحتوى، ويسخر لتذويب شخصية الأمة الإسلامية، وتغذية ناشئتها بعناصر الفكر الفاسد، لقد بدأ الإعلام نشاطه وهو يعاني من محنة وعجز، محنة في الأخلاق والقيم؛ إذ نشأ بعيداً عنها، وعجز في استقلال هذه الصناعة الحديثة؛ إذ نشأ عاجزاً عن الاستقلال في توظيف وسائلها فيما يخدم الأمة، ويرسخ انتماءها إلى الإسلام، ويعود على الأمة بالخير والمنفعة، ولايزال غالب إعلام أمتنا إلى يومنا هذا يعاني من آثار هذه النشأة التي انعكست سلباً على مستقبله حتى بعد رحيل المستعمر من بلاده، وحتى بعد اتساع خبراته في صناعة الإعلام ووسائله؛ لأن هذا الإعلام بقي تابعاً مرتبطاً بالتقدم التكنولوجي الغربي السريع وأساليب الإعلام الغربي، ولم يُعْنَ ببناء ذاتيته، ويكرس انتماءه إلى دينه، ويؤكد على هويته مما أخر تحرره من ربقة الفكر الغربي والتخلص من هيمنته، إن نظرة متجردة وفاحصة إلى المضامين الإعلامية وحدها تكفي في استنتاج حكم، هو أن ذات إعلامنا الإسلامي متأثرة بمنهجية وافدة إن لم تكن ممسوخة أو منسوخة تماماً، فالمضامين الإعلامية عندنا لا تعدو أن تكون ذات نسج غربي بلسان عربي، وأنها ذات توليفة في أفكارها وطرائقها لا تعتمد على نضج ووعي بإشكالية الأصالة الإعلامية والمعاصرة، ولا بأهمية الإعلام ودوره في بناء الانتماء للأمة وتأكيد هويتها(6).
فهو إعلام نشأ ويعيش في ظل التبعية للإعلام الغربي إلا ما رحم ربي في بعض وسائل الإعلام ومجالاته وبرامجه الهادفة.
تظهر آثار هذه التبعية للفكر الغربي فيما يقدمه الإعلام للطفل في المجتمعات الإسلامية من قصص خيالية تدور حول المبالغات والخوارق والأساطير الكاذبة، يقرأها أو يستمع إليها، أو يشاهدها من خلال أفلام الكرتون والمسلسلات؛ لتكرس في نفسه الصراع، أو تشككه في عقيدة الإيمان بأن الله القوي وحده، وأنه المدبر للكون والمهيمن عليه؛ إذ يرى أشخاصاً لهم قدرة على إيقاف حركة الكون أو منع الموت وفعل الخوارق والمعجزات كما في السوبرمان و بو بَّاي وغيرها، بل من هذه القصص ما يقوم على أساس الوثنيات وتعدد الآلهة، ومنها ما يدور حول الخيانة وحوادث العنف والسرقة والقتل وحيل المجرمين وترويج المخدرات، والدعوة الصريحة أو المبطنة إلى الخروج على القيم والأخلاق وإشاعة العادات والآداب الغربية، ولم يقف الإعلام عند هذا الحد بل تحول إلى وسيلة تغالط في تاريخ الأمة وتثير الشبه والشكوك في نفوس القراء والمستمعين والمشاهدين حوله، وتسعى إلى تلميع كثير من دعاة السفور والتحلل ومهدري الأوقات من فنانين ولاعبين وغيرهم على أنهم نجوم وأبطال (لقد زخرفت تلك الوسائل جميع القيم الهابطة والمبادئ الرديئة في عيون أبنائنا، فما عادت تجدي النصائح أو القيم التربوية التي يمليها البيت، وتغرسها المدرسة للتناقض الذي يحسه النشء بين ما يشاهد ويسمع ويقرأ في وسائل الإعلام، وبين ما تقدمه المدرسة ويقوم به المنزل. (7)
ما هو الحل؟
إن من حق الأجيال والناشئة على قادة الفكر ورجال الأدب والقائمين على الإعلام أن يرسموا لهم منهجاً إعلامياً خاصاً مستمداً من عقيدتهم ومبادئ دينهم الحنيف، ولعل أهم الجوانب التي ينبغي عليهم أن يولوها اهتمامهم ما يلي :
ــ صياغة المادة الإعلامية وفق مستوى تفكير الطفل ونوعية ميوله وخصائصه النفسية وحاجاته التربوية رغبة في استثمارها بما يعود عليه بالنفع وينمي ميوله واستعداداته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (ما أنت بمحدث قوما حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)(
ــ العناية بالأسلوب الفني والطريقة الشائقة في العرض؛ لما لها من أثر في جذب الطفل إلى القراءة والاستماع والمشاهدة والمتابعة والانتفاع بالمادة الإعلامية، قال تعالى : { وقولوا للناس حسنا } (9)
ــ الاهتمام بصحة المضمون وتنوعه؛ فإن مدار صلاح الإعلام وكشف شخصيته على مضمونه، فالوسيلة الإعلامية أداة ذات حدين، لها نتائجها ومحصلتها في توجيه الطفل وتنشئته ورسم مستقبله؛ لذا يمكن صياغة هذا المضمون وفق الحكم الشرعي، وضبطه برقابة حازمة حكيمة تستهدف ما يحقق صلاحه واستقامته، وتربيته على الخير والهدى، وأن جاذبية الإعلام في تنوع موضوعاته وبرامجه يقتضيها تنوع الميول وتعرض الطفل للسأم والملل.(10)
ــ بناء الإعلام على أساس أنه وسيلة للرعاية الثقافية النقية من كل دخيل أو غريب على الإسلام التي تمد الطفل بالخبرات والمعارف الأصيلة، وتعرفه بالأفكار والآراء الحديثة، وغير ذلك مما يعود بالنفع والخير عليه، وتحصنه من سموم الأفكار التي تنقلها وسائل الإعلام المنحرفة من غير أن يكون للأمة خياراً فيها ولا رغبة، وتبصرهم بأضرارها ليأخذوا حذرهم منها ومن أمثالها(11).
------------------------------------------------
(*) : يقصد بالسلوك : أي عمل يقوم به الإنسان ؛ومن خبرتي في التعليم الملاحظ أن سلوك الناشئة في الأونة الأخيرة مع تطور وسائل الإعلام بدأ بالتحول التدريجي من السلوك الإيجابي إلى السلوك السلبي وأيضاً تدني مستواهم التعليمي إلا ما رحم ربي. فكنت دائماً أوجههم نحو التربية قبل التعليم ، وهي الرسالة التي يحملها أي معلم؛لذلك على و وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة المرئية أن تحمل نفس الرسالة .
(1) : سورة الأحزاب، الآيتان( 45 ـ 46)
(2) : سورة المائدة، الآية: 92.
(3) : سورة آل عمران، الآية: 104.
(4) : نصر، 18-1.
(5) : (يكن، 22).
(6) : الحارثي، 13
(7) : د. محمود محمد ، 53.
(
: رواه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، رقم 5.
(9) : سورة البقرة، الآية 83.
(10) : في ضوء القرآن والسنة، الدكتور التهامي نقرة، 279.
(11) : ثقافة الطفل المسلم، مفهومها وأسس بنائها / د. أحمد بن عبد العزيز الحليبي ، 139.
المصدر:
http://mustafademes.malware-site.www/elm/archive/2008/8/643263.html