رغم الجدل الدائر حول العولمة وأبعادها المختلفة، إلا أنه بالإمكان استنباط جملة من الاستخلاصات المقتضبة التي توضح لنا أهم المضامين التي ينطوي عليها مفهوم العولمة ولعل من بين أهم تلك الإستخلاصات ما يلي:ـ
)Global أولاً: إن العولمة كلفظة تعود في جذورها إلى الكلمة الإنجليزية (
والتي تعني عالمي أو دولي أو كروي، وترتبط أحياناً بالقرية، ويصبح معنى المصطلح
) أي العالم عبارة عن قرية كونية واحدة. Global village القرية العالمية (
فيترجم إلى الكوكبة أو الكونية أو العولمة، Globalization أما المصطلح الإنجليزي
ويتصل بها فعل "عُولم" على صفة "فَوعَل" وكانت الغلبة لكلمة العولمة لشيوع استخدامها" .
والعولمة بأهدافها الحقيقية هي محاولة إخضاع شعوب العالم لمشرب ثقافي وأخلاقي ونفسي واحد .تحت ذريعة عالمية البشر.وهذا يضمن تشكيل البناء الاجتماعي العالمي تشكيلاً نمطياً وانتقائياً في آن واحد.
ثانياً: لا يوجد اتفاق بين جمهور الباحثين والمحللين حول تحديد بداية زمانية لتفاعلات ظاهرة العولمة ولكن ثمة هناك أراء شائعة تؤكد على أن العولمة ليست نتاج العقود الأخيرة من القرن الماضي والتي تتبلور من خلالها المصطلح، بل هي ظاهرة قديمة ذات مصطلح جديد وذات تجليات جديدة لعل أبرزها الثورة المعلوماتية والإتصالية كما يؤكد الكثير من الباحثين على أن العولمة تجد بداية تشكلها وتكونها الزمني "منذ القرن الخامس عشر ثم تطورت مع التجارة واختراع البوصلة والاكتشافات الجغرافية وولادة الدولة القومية واختراع الآلة البخارية والتقسيم الفني للعمل لزيادة الإنتاج والتنافس على امتلاك المستعمرات وظهور الشركات الاحتكارية وتطور العلاقات الدولية في شكل مؤتمرات دولية ثم تنظيمات دولية ليست مقصورة على دول أوروبا واعتماد التقويم الجريجوري وتطبيق فكرة الزمن العالمية وبداية عصر الذرة والتقدم التكنولوجي، وبروز الشركات المتعددة الجنسيات وغزو الفضاء وانهيار النظام الدولي الثنائي القطبية" .
ثالثاً: ـ انقسمت وتباينت المحاولات التي حاولت تعريف العولمة إلى أربعة أنماط رئيسية هي : ـ
أ ـ نمط التعريفات الذي يرى في العولمة حقبة محددة من التاريخ أكثر منها ظاهرة اجتماعية أو إطاراً نظرياً.
ب ـ نمط التعريفات الذي يرى في العولمة مجموعة ظواهر اقتصادية تتضمن تحرير الأسواق وخاصة القطاع العام، وانسحاب الدولة من أداء بعض مهامها ووظائفها الكلاسيكية وبالأخص ما يتعلق بمجالات الرعاية الاجتماعية.
ج ـ نمط التعريفات الذي ينظر للعولمة باعتبارها ثورة تكنولوجية واجتماعية وشكل جديد من أشكال النشاط يتم فيها الانتقال بشكل حاسم من الرأسمالية الصناعية إلى المفهوم الما بعد صناعي للعلائق الصناعية.
د ـ نمط التعريفات الذي يرادف العولمة بمصطلح الأمركة ويرى فيها تعبيراً صريحاً عن الهيمنة الأمريكية، وهو نمط في الواقع فيه الكثير من الخلط واللافهم بماهية العولمة .
إذا كانت العولمة تعني تغليب الشأن العالمي على الشأن المحلي لكل دولة فإن ما يحدث في العالم منذ غزو العراق عملياً لا يتوافق مع ذلك بل أنه على العكس تماماً يدل دلالة واضحة على تغليب الشأن الأمريكي على الشأن العالمي أو بمعنى آخر على الشأن المحلي للأمم والبلدان الأخرى رغم كون ذلك التغليب يتم تحت لافتة العولمة في عملية تزوير للمصطلحات والمفاهيم لم يسبق لها مثل في هذا العالم .
ويفرق البعض الفروق التالية والتي تعد هي الأخرى مؤشراً للتباين الضمني للمصطلحين وهذه الفروق هي:ـ
أ. أدوات وأبعاد العولمة ليست بالضرورة أن تكون ذات عمق كولينالي أما الأمركة فيجب أن تكون ذات عمق كولينالي وتوسعي.
ب. للعولمة إيجابياتها وسلبياتها وللأمركة وجه واحد قاتم السواد.
ج. العولمة عملية تحول فرضتها مستجدات ومتغيرات دولية جديدة أما الأمركة فهي توظيف لحالة سلبية نجمت عن تفاعلات العولمة.
رابعاً: ـ يمكن توزيع أبعاد العولمة إلى أربعة أبعاد رئيسية هي:ـ
أ ـ البعد السياسي: ـ وهو البعد الذي تعبر عنه الأمركة الآنف ذكرها بشكل جلي وواضح من خلال التطبيقات العملية لتفاعلات ظاهرة العولمة.
ب ـ البعد الإقتصادي: ـ وهو بعد يعبر عن تجليات ومضامين عديدة لعل أهمها:ـ
1. بروز نظام اقتصادي عالمي يهدف للسيطرة على مختلف الاقتصاديات الوطنية والقومية عبر شركات عابرة للوطنيات والقوميات والتي تحاول الاستفادة من نظام رأس المال القائم على تدفقات التجارة والاستثمار والأموال التي تتركز في أوروبا وأمريكا واليابان، وذلك عبر ممارسة ضغوط تحكمية كبيرة على أسواق المال الموجودة في مختلف دول العالم، والتي تضطر تحت تأثير تلك الضغوط إلى الاستجابة لأي مقتضيات واشتراطات تغيير مدفوعة في ذلك بعوامل اقتصادية مفروضة عليها من سوق عالمية سريعة الركب(5).
2. وجود ثلاث آليات رئيسية تسهم في تفعيل الحراك الاقتصادي لظاهرة العولمة وهذه الآليات هي (البنك الدولي ـ صندوق النقد الدولي ـ منظمة التجارة العالمية).
ج / البعد الثقافي: ـ ويتجسد في مشهديات ذلك الفيض المتدفق إلى بلدان الأطراف "في شكل كلمات وقيم أخلاقية وسلوكية، قواعد قانونية، اصطلاحات سياسية، معايير كفاءة، وذلك من خلال وسائل الإعلام ( صحف ـ إذاعات تليفزيونات ـ أفلام ـ كتب ـ أسطوانات ـ فيديو"(6).
د / البعد الإتصالي والمعلوماتي: ـ ويتمثل في التطور التقني الذي ترتب عليه ظهور ثقافة ما بعد المكتوب، الثقافة التي أفرزتها ميكانيزمات وأدوات عدة لعل أبرزها "الإنترنت ـ الأقمار الفضائية وتطور الحواسب الآلية".
خامساً: ـ فرضت تفاعلات العولمة تحديات كثيرة على مختلف دول العالم ولعل من أبرز تلك التحديات تحدية السيادة الذي بات يوجس مختلف الوحدات السياسية المكونة للنظام الدولي الراهن وكذلك التحديات التي ترتب عن مختلف المستجدات ومنها تحدي اختراق الخصوصية الثقافية للآخر وكذلك جملة التحديات الإعلامية التي سندرسها من خلال تسليط الضوء على مدى تأثيرها على إعلاميات النظام الإقليمي العربي.
ويمكن التوصل مما سبق الى ما يلي:
في حين أن تطبيقاً قسرياً للمفاهيم السابقة أثمر ثماراً خمطاً تدنى فيها الفكر البشري والذوق البشري بل والضمير البشري إلى مستويات متردية جداً.ولم يصل الفن إلى درجة الحضيض إلا تحت أمثال هذه المسميات.
والعجيب في الأمر أن غالبية هذه الشعارات تتخذ مسميات مغرية ليس إلى دحضها ظاهرياً من سبيل.ولا يتم دحضها غلا بعد تحليل ما تمخض عنه الواقع – بتأثيرها- من تردي.
على ذلك فأي مبرر يبقى لكي يقامر أحد ويجعل مستقبل الأنسانية يتهاوى تحت سطوة هذه الروح المتدنية؛ تحت شعارات مطاطة كالعولمة التي ليس إلى تحديد مراميها الحقيقية أو دلالاتها الفكرية والسياسية من سبيل.
نظراً لأن الملمح الاقتصادي هو الملمح الفاعل والمحرك لمختلف أبعاد العولمة فإن القطاعات الإعلامية العربية تأثرت بالنمط الاقتصادي العولمي، حيث أسهمت تأثيرات ذلك النمط في تفعيل الغايات والأهداف المرجوة من وراء ظهور فكرة "اقتصاديات الإعلام" والتي كانت المقدم الرئيسي لما بات يسمى الآن بإعلام العولمة وهو إعلام يعرفه السيد أحمد مصطفى على أنه" سلطة تكنولوجية ذات منظومات معقدة، لا تلتزم بالحدود الوطنية للدول، ,إنما تطرح حدوداً فضائية غير مرئية ، ترسمها شبكات إتصالية معلوماتية على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، لتقيم عالماً من دون دولة ومن دون أمة ومن دون وطن، هو عالم المؤسسات والشبكات التي تتمركز وتعمل تحت إمرة منظمات ذات طبيعة خاصة، وشركات متعددة الجنسيات، يتسم مضمونه بالعالمية والتوحد على رغم تنوع رسائله التي تبث عبر وسائل تتخطى حواجز الزمان والمكان واللغة، لتخاطب مستهلكين متعددي المشارب والعقائد والرغبات والأهواء" .
ومن خلال التأمل في ديناميكيات إعلام العولمة نستنبط جملة من السمات والخصائص المتعلقة بذلك الإعلام والتي يأتي في مقدمتها :
أولاً: ـ أنه إعلام استهلاكي يهدف لتحقيق الآتي: ـ
أ. السعي إلى تشكيل الحياة الاجتماعية للشعوب وفق مصالح الأطراف المهيمنة على مركز إعلام العولمة.
ب. إعلام يعمل على تغيير الواقع الثقافي من خلال تعويد العقول على مشاهدة ومعايشة الأنماط المغرية للثقافة الغربية.
ج. إعلام يشجع على الانخراط النشط في الثقافة الغربية بالأشكال الجديدة لها من مأكولات وملبوسات ومتع وترفيه وانفاق يتجاوب مع حاجة اقتصاد السوق الرأسمالي.
د. إعلام يتفنن في تطوير أساليب ووسائل التأثير في المتلتقي ومن أهمها التكيف مع ثقافة السوق وتقديم المواد الإعلامية السهلة والسريعة والبسيطة والتأثير على المتلقى عبر وسائل عدة منها التدفق الحر للمعلومات وتنويع الرسالة الإعلامية والبث السريع المتواصل والاعتماد على الأساليب السيكولوجية في إحداث التأثير على المتلقي، فعلى سبيل الذكر لا الحصر يعمل إعلام العولمة على التوظيف الأمثل للرسالة الإتصالية من خلال اعتماد اسلوب الصدمة العقلية وهو أسلوب يعمل وفق آليات عدة لعل أهمها التركيز على حاسة البصر باعتبارها أقوى الحواس ولفت الانتباه عبر تغيير الرسالة الإتصالية مثل تغيير شكل الإعلام مثلاً وكذلك وضع الرسالة الإتصالية في الأماكن والأوقات المميزة والحرص على ان تكون ذات زمن وتكرار وارفين .
ثانياً: ـ إعلام يبذل جهده الجاهد من أجل "تقليص دور الجامعات والمنظمات الدولية في تنظيم بيئة الإعلام والإتصالات المحلية، لصالح الشركات الإحتكارية متعددة الجنسية، وذلك من خلال الدعوة إلى تغيير التشريعات والنظم التي تعوق التدفق الحر للمعلومات والصورة والرموز بين الدول أو تمنح الحكومات أدواراً ووظائف إعلامية كالتخطيط والرقابة والمنح والمصادرة" .
ثالثاً:ـ إعلام شبه مؤمرك لا يحترم خصوصية الآخر الثقافية، باعتبار إن التهجين الثقافي يعد أحد أهم روافد الأمركة الإعلامية والموجهة ضد دول الشمال والجنوب على حد سواء.
-----------------
(1) : عبد الجليل كاظم والي، جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، مجلة المستقبل العربي، العدد 275، يناير 2002 ف، ص 59.
(2): للمزيد أنظر السيد ياسين، العولمة والطريق الثالث، ( القاهرة، دار ميريق للنشر والمعلومات 2001 ف، ص 23.
(3): صالح السنوسي، العرب من الحداثة إلى العولمة، القاهرة، دار المستقبل، 2000 ف، ص 128.
(4) : موسى الأشخم، العولمة والأمركة - المفاهيم والآثار، مجلة دراسات، العدد 13 السنة الرابعة 2003 ف، ص 75.
(5) : : د. عبد الرحمن الرشدان، دور التربية في مواجهة تحديات العولمة في الوطن العربي ب، مجلة شؤون عربية، العدد 113، خريف 2003 ف ،ص 84.
(6) : : د. محمود أبو العينين، المحددات العالمية لعلاقة العرب الثقافية مع أفريقيا،بحث نشر ضمن كتاب "ندوة العلاقات العربية الأفريقية"، جمعية الدعوة الإسلامية ، ص 293.