قال محمود درويش عن ناجي عندما رسم طفله حنظلة:
... مخيف ورائع هذا الصعلوك..
إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية..
سريع الصراخ طافح بالطعنات
وقال عنه محمود درويش ذات يوم ما معناه :
" ناجي العلي مثل الرادار يرصد الخطأ "
فكان أن كتب ناجي العلي نفسه كاريكاتير يقول فيه :
لايحق للشاعر ما لايحق لغيره...
ويقول درويش أيضاً عن ناجي:
«أغبطه كل صباح، أو قل إنه هو الذي صار يحدد مناخ صباحي، كأنه فنجان القهوة الأول يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلني علي اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد الذي سيعيد طعن قلبي، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشري، مخيف ورائع هذا الصعلوك الذي يصطاد الحقيقة بمهارة نادرة كأنه يعيد انتصار الضحية في أوج ذبحها وصمتها، إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان سريع الصراخ وطافح بالطعنات وفي صحته تحولات المخيم.
ويضيف درويش:
«احذروا ناجي فالكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم أنه لا يأخذ المخيم إلي العالم ولكنه يأسر العالم في مخيم الفلسطيني ليفيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره، ناجي لا يقول ذلك ناجي يقطر يدمر، ويفجر ودائما ما يتصبب أعداء».
ناجي العلي وقهوة درويش الصباحيةويقول درويش أيضاً عن ناجي:
لا أعرف متى تعرفت على ناجي العلي، ولا متى أصبحت رسومه ملازمة لقهوتي الصباحية الأولى، ولكنني أعرف انه جعلني أبدأ قراءة الجريدة من صفحتها الأخيرة·
كان آخر من رأيت في بيروت بعد الرحيل الكبير الى البحر، كانت بيروته الاخيرة وردة تبكي، وكان يسخر من نفسه لأن الغزاة في صيدا ظنوه شيخا طاعنا في السن بسبب بياض شعره، سألني الى اين سأرحل، قلت: سأنتظر الى ان اعرف، وسألته ان كان سيبقى، قال انه سينتظر الى ان يعرف·لم يكن احد منا خائفا، لأن المشهد الدرامي في بيروت كان اكبر من أية عاطفة، فرسم بيروت وردة وحيدة، ولم نعلم، لم يعلم احد، ان وراء الوردة وحشا يتقدم من مخيماتنا، لم نعلم ان الحناجر والسكاكين كانت تشحذ جيدا، في ذلك الليل، لتقطع اثداء أمهاتنا، فقد كنا غائبين عن وعي التكهن·· ونحن ننظر الى البحر الغارق في البحر·ورأيته، للمرة الأخيرة في باريس، يتذكر الا بيروت، قلت له مازحا: أما زلت تنجو لأن الغرباء يظنون انك شيخ طاعن في السن؟ كان يشكو من رئيس التحرير السابق: عدت الى المقهى لأضربه فلم اجده، قلت له: اهدأ، فقد آن لك ان تجد التوازن بين يدك الذهبية ومزاجك العاصف، وكان يهدأ رويدا رويدا·· خطرت له خاطرة: تعال نعمل معا، انت تكتب·· وأنا ارسم·وكنا صديقين دون ان نلتقي كثيرا، لا اعرف عنوانه ولا يعرف عنواني، تكلمنا مرة واحدة حين امتنعت جريدته عن نشر احدى مقالاتي التي ادافع فيها عن نفسي أمام هجمات احدى المجلات، قال: سأدافع عن حقك في التعبير، وسأتخذ موقفا، قلت له اهدأ·وكنت أكتب، وكان يرسم·
جميع الذين عملوا معه كانوا يقولون انه اصبح جامحا، وان النار المشتعلة فيه تلتهم كل شيء، لأن قلبه على ريشته، ولأن ريشته سريعة الانفعال والاشتعال لا تعرف لأي شيء حسابا، ولأنه يحس بأن فلسطين ملكيته الخاصة التي لا يحق لأحد ان يجتهد في تفسير ديانتها، فهي لن تعود بالتقسيط، لن تعود الا مرة واحدة·· مرة واحدة من النهر الى البحر·· والا، فلن يغفر لأحد، ولن ينجو احد من تهمة التفريط، ولقد ازدادت نزعة التبسيط السياسي فيه اثناء غربته في لندن، فأعلن الخلاف مع الجميع، وخدش الجميع بريشة لا ترحم، ولا تصغى الى مناشدة الأصدقاء والمعجبين الذين قالوا له:يا ناجي، لا تجرح روحك الى هذا الحد، فالروح جريح·وكان الأعداء يسترقون السمع الى هذا الخلاف، كانوا يضعون الرصاصة في المسدس، كانوا يصطادون الفرصة·كنت أكتب، وكان يرسم·
وخلاف بسيط لا عداوةوحين استبدل عبارتي بيروت خيمتنا الأخيرة بعبارته اللاذعة محمود خيبتنا الأخيرة، كلمته معاتبا: فقال لي: لقد فعلت ذلك لأني احبك، ولأني حريص عليك من مغبة ما انت مقدم عليه، ماذا جرى·· هل تحاور اليهود؟ اخرج مما أنت فيه لأرسمك على الجدران·لم يكن سهلا عليّ ان اشرح له بأن تدخلنا في أزمة الوعي الإسرائيلي ليس تخليا عن شيء مقدس، وبأن استعدادنا لمحاورة الكتّاب الاسرائيليين الذين يعترفون بحقنا في انشاء دولتنا الوطنية المستقلة على ترابنا الوطني ليست تنازلا منا، بل هو محاولة اختراق لجبهة الاعداء·لم يكن سهلا ان تناقش ناجي العلي الذي يقول: لا أفهم هذه المناورات·· لا افهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية·كان غاضبا على كل شيء، فقلت له: مهما جرحتني فلن اجرحك بكلمة، لأنك قيمة فنية نادرة، ولكن، بعدما صرت خيبتك الأخيرة لم يعد من الضروري ان نكتب وان نرسم معا، وافترقنا، كما التقينا، على الهواء·عتاب لا تهديد
اذكر تلك المكالمة، لأن صناعة الشائعات السامة قد طورتها من عتاب الى تهديد، طورتها ونشرتها الى حد الزمني الصمت، فلقد ذهب الشاهد الوحيد دون ان يشهد احد انه قال ذلك، على الرغم من ان احدى المجلات العربية قد نشرت على لسانه انني عاتبته، وعلى الرغم من انه ابلغ رئيس تحرير القبس بأنه ينوي كتابة رسالة مفتوحة اليّ يشرح فيها عواطفه الايجابية، على الرغم من كل ذلك فإن صناعة الشائعات مازالت تعيد انتاج الفرية، التي لا املك ردا ازاءها غير التعبير عن الاشمئزاز مما وصل اليه المستوى الأخلاقي العام من قدرة على ابداع الحضيض تلو الحضيض·حين استشهد ناجي العلي، سقطت من قلبي اوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقا آخر، صديقا مبدعا، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء ان يديروا حوار الخلاف، بيننا الى الحدود التي يريدونها ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة الى مشاهدين·لذلك، فإن اغتيال ناجي العلي، في لحظة الخلاف العائلي العابرة، هو جريمة نموذجية اتقن الأعداء صناعتها بقدرتها على تأويل جرائم اخرى ليس اقلها دناءة التشهير بتربيتنا الأخلاقية، بل محاولة منعنا من تطوير ما يميزنا، قليلا، عما يحيط بنا من انحطاط، وهو: حق الاختلاف في الرأي، ومحاولة محاصرتنا بأحد خيارين: أما القطيع، وإما القطيعة·كان في وسعنا، ومن حقنا، ان نختلف وان نواصل التعبير عن الاختلاف، في مناخ افضل، على ما يعتقد كل واحد منا انه الطريق، أو الأداة، او اللغة، او الشكل، الاقرب الى بلوغ الحرية والوطن، فذلك هو احد مكونات حريتنا الذاتية ووطننا المعنوي، واحدى سمات نشاطنا الوطني المغايرة لامتثال القطيع، لذلك، فإن اختراق العدو جبهة حوارنا هو محاولة لايصال العلاقة بين من استعصوا على ان يكونوا قطيعا الى علاقة القطيعة·
من هنا، فإن الوفاء لشهدائنا ولذاتنا لا يتم بالقطيعة، بل بتطوير مضامين هويتنا الديمقراطية، وخوض معركة الحرية ومعركة الديمقراطية داخل الحالة الفلسطينية بلا هوادة وبلا شروط·فلا الورد الملكي يبكي علينا·ولا مسدسات الاغتيال ولغة الاغتيال تجهز من أجل الوطن·فلماذا يغتالون الشهداء مرة ثانية، بأن يُضفوا عليهم هوية ليست لهم·إن ناجي العلي لنا، منا، ولنا·· ولنا·لذا، ليس من حق سفاحي الشعب الفلسطيني ان يسرقوا دمعنا، ولا ان يخطفوا منا الشهيد· فهذا الشهيد الذي كان شاهدا علينا هو شهيد ثقافتنا، شهيد الطرق المتعددة الى الوطن·· وهو أحد رموز الرأي المغاير داخل الحالة الفلسطينية المغايرة لما يحيط بها من قمع·إن ناجي العلي احد مهندسي المزاج الوطني، وهو احد نتاجات الابداع الوطني هو ابننا واخونا ورفيق مذابحنا وأحلامنا، وخالق حنظلة الخالد، القادر على ان يُسمي هويتنا بتأتأة تضحكنا وتبكينا·لقد رحل، ولكنه خلّف خلفه تراثا هو تراثنا الجماعي، تراث شعب يتكون بكل ما يمتلك من وسائل التكوّن·من الطبيعي ان يتكاثر الذباب حول الدم· فهل أخذ الذباب وقتا كافيا ليعتاش من دمنا المسفوك في كل ناحية؟ كفى، كفى·ان تعميم ابداع ناجي العلي على جيل اليوم وعلى جيل الغد هو مهمتنا، وان تكريم هذا المبدع المتميز هو واجبنا· ومن كان منا بلا خطأ أو خطيئة، فليطبق بصوابه المطلق على عمرنا كله·لذلك، فإن من أول شروط الوفاء لهذا المسير الطويل الى الوطن والحرية والإبداع، ان ندعو الى تشكيل لجنة وطنية لتخليد ذكرى ناجي العلي، الذي امضى عمره حاملا ريشته الفذة، حافرا في كل صخر اسم وطنه الذي يستعصي على النسيان، الاسم المنذور للنصر·"هذا ما قاله محمود درويش في ناجي العلي
رحمكما الله يا محمود ويا ناجي
لن ننسى قصائد درويش ولن ننسى رسومات العلي
ولن نسمح لخلاف بسيط بالرأي كان بينهما يجعل بإعتقادنا ثمة عداوة بينهما .
ولن يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى ذاكرة تذكرهم بالفارس محمود درويش الذي ترجل وترك الحصان وحيدًا، لأنهم أوفوا حق من سبقوهكمعين بسيسو وفدوى طوقان ورفيقيه غسان كنفاني وناجي العلي الذين شكلوا مثلثاً أدبياً كاملاً للأدب الفلسطيني في الشعر والرواية ورسم الكاريكاتير، فلم تمحُ الأيام الحالكة ذكراهم وكأنهم يعيشوا بيننا ومعنا فوجه حنظلة ابن ناجي العلي " ابن القضية أيضا" لازال يرافقهم في شوارع المخيمات ويطل بوجه على بيروت وغزة كل صباح.وحكايات غسان كنفاني لازالت نبراسا له ترقي بها أوجاعهم.
المصدر: كتاب ( حنظلة شاهد العصر الذي لا يموت)